خالد سينو
17 كانون الثاني 2011، يومٌ مفصلي في الذاكرة التونسية الحية، فمع تطاير لهيب النار من جسد الشاب محمد بوعزيزي كانت الشرارة والقطرة التي أفاضت الكؤوس المترعة في هز العرش الرئاسي، حيث تصاعدت وتيرتها ليوم الهروب الكبير والمذل لضحاك آخر في العصر الحديث.
كل الموانع التي حاولت سلطة العنف في تونس وضعها لسد الطريق أمام من نزلوا إلى الشارع لم تجعلهم إلا أكثر إصرار على المضي قدماً لدق الاسفين في العرش، لم تنفع مسكنات السلطة ولا خطابات المخلوع (… الآن فهمت ماذا تريدون …)- قالها الجنرال المهزوم في لحظة تجلي الحقيقة الشعبية، القضية كانت ابعد وأخطر من تلك المهدئات الوقتية لامتصاص النقمة وإعادة ترتيب البيت المتهاوي. القضايا الاجتماعية والاقتصادية مفجر الأزمة/ الثورة لن تحل بالكلام المعسول، تلك القضايا وإن كانت لها صبغة اجتماعية/ اقتصادية ولكن مداليلها السياسية كانت غير خافية، بل كانت حاضرة بقوة في توجيه دفة المواجهات رفضاً للجوع والبطالة والفساد وتسلط الفرد والزوجة والعائلة وغياب الديمقراطية والحريات الاساسية للإنسان إنها مفاعيل ثورة القاع المهمش على الطبقة المخملية الحاكمة بأمر القوة والسبطانة العمياء وشرعنة الدكتاتورية.
يوماً قال شاعر تونس أبو قاسم الشابي في إرادة الحياة:
إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ
وها هي الحياة تتجدد مرة أخرى في تونس التي سميت خضراء في كتبنا وثقافتنا الرسمية، ولم نعرف سوى أنها بلد الزيتون والسياحة والبحر والمناظر الخلابة والقاسم الشابي … ، تلك كانت الواجهة التي أختبأ "السيد الرئيس" وزوجه وحاشيته ولصوصه خلفها لحلب (بقرة حاحا) لآخر القطرة كما قال الشاعر أحمد فؤاد نجم في توصيفه لقطط السمان المصرية، هي صورة طبق الأصل وإن اختلفت تسميات البلدان والرؤساء والرموز الحاكمة، والمكان والزمان، البلد مسلوب من قبل الراعي/ الذئب، منهوب من قبل من اغتصبها بفعل رائحة البارود والاقبية التي لا تدخلها الريح والشمس.
فالحاكم بسبب طبيعته الديكتاتورية يعجز عن فهم أن العدالة لن تتحقق إلا بالحرية والديمقراطية فطعم الخبز لا يكتمل بدون الحرية كما قال د. إبراهيم محمد (دويتش فيله) في معرض تعليقه على ثورة تونس. المشكلة تكمن في الحكم البوليسي القائم، أغلب هؤلاء أتوا للحُكم على متن الدبابة لهذا تراهم لا يستطيعون الحكم والنظر إلى الآخرين إلا من فوهة تلك الدبابة التي حملتهم للاستيلاء على زمام الأمور وفاء للسبطانة القاتلة، للسيطرة وبسط النفوذ ونهب الخيرات وتوليد أجندة تطرفية تستغل حاجات الشعب إلى مقومات الحياة لتنشر سمومها الطائفية في المجتمع خدمة لأهدافها.
ما حصل في أرض الزيتون هو بصيص نور تعطينا جرعة كبيرة من الأمل بأنه بإمكاننا القيام بالفعل لتصحيح مسار التاريخ المسروق منا في بلادنا بقوة العسكر، هو مخرج ودرس في فن الاداء الشعبي للخروج من الشرنقة التي حشرت فيها بالرغم من إردتها.
ستكتب كتابات كثيرة عن الحدث، عن تلك الواقعة التي اختصرت سنين الظلم والاضطهاد والحرمان … وفرار "السيد الرئيس"، ستكتب تحليلات تملئ بها أعمدة صحف شتى في كل بقاع الأرض، ستستنتج استنتاجات كثيرة، مفاهيم جديدة، سنقرأ عن مقارنات بين تونس وبلدان أخرى نسكنها أو هربنا منها، لكن الحدث/ الثورة، العملية بحد ذاتها، التغيير بفعل الإرادة الشعبية ستظل الحقيقة الوحيدة القائمة في وعيينا ووجداننا، ستظهر تلك الواقعة بكل مداليلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية عن عجز المعارضة في قراءة الحدث قبل وقوعه، ستبين بُعد المسافة بين الشعب وتلك المعارضات التي تدير السياسة وكأنها في منتدى ثقافي حلبة للنقاش والتنظير النظري، وتلك التي تعجز عن تحليل الواقع واستخلاص العبر والدروس لتنظيم الصفوف والأنطلاق، ستبين زيف البعض منّا، وما اكثرهم، ستعريهم من ورقة التوت تلك بأن السياسة لا تصنع بالخطابات واللقاءات الولائمية أو بمسيرات واهنة هنا أو هناك تحمل لافتات تنديدية وشعارات لا تستطيع اعتى الديمقراطيات تحقيقها كما تعد تلك المعارضات بتحقيقها فيما إذا انقلبت الأمور في البلد..
تونس ستكون مادة دسمة لنا، على موائدنا السياسية بمختلف اتجاهاتها السياسية من أقصى يسار إلى أقصى يمين، قراءةً، تحليلاً، كتابةً أو نقداً لأوضاعنا المشابه وعجزنا عن استثمار تلك الظروف المشابه للقيام بالحدث والفعل المشابه.
تونس تدق باب معارضتنا في عواصمنا واريافنا ومدننا أو في فرارها الأوروبي بأن الحقيقة المطلقة تكمن في الشارع، الشارع يحدد وضعها وحجمها وثقلها، فهل معارضتنا تجد نفسها في قلب ذاك الشارع؟ في ذاك الأنين المنطلق من الأفواه المكمومة وأوجاع سنين الحرمان.
تونس أملت علينا بيانها في ساعة رحيل دكتاتورها … ونحن نقرأ تحليلات معارضتنا في الداخل السوري واستنتاجاتها المرقمة … 1 … 2 … 3 … 4 … الخ ووعائظها بعد الحدث، وليس قبل الحدث وفي قلب الحدث كما تقول قناة جزيزة (راجع بيان إعلان دمشق للحدث التونسي)، تطلب كسر حاجز الخوف والصمت وهي بذاتها مليئة بكل انواع الخوف والصمت والتراجع عن الأهداف والبرنامج المعلن، والفشل الذريع في لملمة شتات المشتت.
تونس تعلنها ثورة على الطاغية بطريقتها الفريدة، معلنة رفضها للوصاية السياسية واحتكار السلطة وتغييب الشعب، ومجلسنا السياسي الكوردي في سوريا يعلن بإصرار أنها انتفاضة هرباً أم خوفاً من مصطلح الثورة في بيانها المتأخر جداً (بيان المجلس السياسي)، وهو أسوء توصيف للحدث التونسي، كان أقرب إلى سرد الحدث مقارنة مع البيانات والتحليلات أطياف المعارضة السورية المختلفة التي تناولت الحدث/ الثورة، بل ويهرب البيان بشكل متعمد صارخ في إيراد مقارنة بين تونس وسوريا، من حيث الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتشابه جداً، ولو لم أقرأ توقيع المجلس السياسي الكوردي في سوريا في نهاية البيان لحلفت بكل المقدسات بأنه صادر عن حركة أو حزب تونسي. سوريا أسوء سياسياً واقتصادياً واجتماعياً من تونس ومع ذلك نرى من يتغنى بمجد انتفاضة (وليس ثورة) تونس وينسى واقعه المر الأكثر قمعاً ونهباً وخنقاً وفساداً … الخ. (بالمناسبة لم نقرأ لليوم رأي ـ المجلس العام التحالف ـ في الحدث الذي هز العرش).
تونس تستفيق من الغفوة … وها هو الاسد الثاني يحث الخطى أن لا يكون ثاني النازلين في المحطة القادمة، ويرقعنا ببعض ما سُرق منّا فيصدر بعض فرماناته و(مكرماته) الخلبية بزيادة تعويض التدفئة إلى 1500 ليرة (60 ليتر مازوت)، وبإحداث الصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية بعد أن نام ذاك المرسوم لأكثر من السنتين في الأدراج الصدئة، ومن جهته البعث السوري يصدر بياناً ليؤكد على خياره وفقوسه (الديمقراطي)، أما وزراءنا ولصوصنا مازالوا يجتهدون في كيفية توزيع (مكرمة) دعم المازوت ونحن على ابواب الربيع…
تونس انتفضت ثم ثارت … لكن كان يمكن أن تكون سوريا أولاً لو لاقى منتفضي 12 آذار 2004 الدعم والمساندة من الداخل السوري من القطاعات العربية، ولولا تدخل المعارضة السورية بشقيها الرسمي والغير الرسمي، الكوردي والعربي المدني والعشائري في تهدئة الأوضاع ومساهمة البعض من رموز الأرث العشائري العربي في الجزيرة في أجهاض الجنين بالمساهمة العملية جنباً إلى جنب مع الأجهزة السلطوية المختلفة في الجزيرة ، ولووووو كان الجيش وطنيا ومحايدا، رافضاً توجيه بنادقه لصدر الشعب كما في الحالة التونسية، فالجيش السوري السوري تحول من مهمته في الدفاع عن الأرض السورية إلى الدفاع عن النظام وفرض سيطرته على الشعب السوري لتفسخ واستشراء الفساد في مفاصله الاساسية وارتباط الصفوة فيه مع النظام القائم بشكل عضوي ومادي. كرة الثلج السورية تلك المتدحرجة لتكنيس كل ما علق بسوريا أوقفت بفعل تلك القوى مجتمعة لتمديد الوصاية على الشعب السوري، قد تكون الأجندة المحركة لتلك التدخلات مختلفة لكن النتيجة كانت واحدة.
تونس هي سوريا، وسوريا هي تونس، لكن تونس سبقت عاصمة الياسمين إلى ثورة الياسمين. تونس دقت الناقوس … لكن الحبل مازال متدلي منه فمن يمسك به ليدق ساعة خلاصه من … التسلط والقهر… وإنكار الحقوق… واللصوصية… وحكم العائلة … ووراثة السلطة … و … و … الخ..
ودمتم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق